فصل: سورة المؤمنون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه الأمم السبعة أكثر أهل الأرض، بل كانت أمة منهم أهل الأرض كما مضى بيانه في الأعراف، فكيف بمن عداهم ممن كان في أزمانهم وبعدهم، وأخبر سبحانه وتعالى أن عادته فيهم الإملاء ثم الإهلاك، تسبب عن ذلك تهويل الإخبارعنهم وتكثيرهم، فقال تعالى شارحاً للأخذ والإمهال على طريق النشر المشوش‏:‏ ‏{‏فكأين من قرية أهلكناها‏}‏ كهؤلاء المذكورين وغيرهم، وفي قراءة الجماعة غير أبي عمرو بالنون إظهاراً للعظمة ‏{‏وهي‏}‏ أي والحال أنها ‏{‏ظالمة فهي‏}‏ أي فتسبب عن إهلاكها أنها ‏{‏خاوية‏}‏ أي متهدمة ساقطة أي جدرانها ‏{‏على عروشها‏}‏ أي سقوفها، بأن تقصفت الأخشاب ولا من كثرة الأمطار، وغير ذلك من الأسرار، فسقطت ثم سقطت عليها الجدران‏.‏ أو المعنى‏:‏ خالية، قد ذهبت أرواحها بذهاب سكانها على البقاء سقوفها، ليست محتاجة إلىغير السكان ‏{‏و‏}‏ كم من ‏{‏بئر معطلة‏}‏ من أهلها مع بقاء بنائها، وفوران مائها ‏{‏وقصر مشيد*‏}‏ أي عال متقن مجصص لأنه لا يشيد- أي يجصص- إلا الذي يقصد رفعه، فحلت القصور من أربابها، وأقفرت موحشة من جميع أصاحبها، بعد كثرة التضام في نواديها، وعطلت الآبار من ورَّادها بعد الازدحام بين رائحها وغاديها، دانية ونائية، حاضرة وبادية؛ ولما كان خراب المشيد يوهى من أركانه، ويخلق من جدارنه، لم يحس التشديد في وصف القصر، كما حسن في وصف البئر‏.‏

ولما كان هذا واعظاً لمن له استبصار، وعاطفاً له إلى العزيز الغفار، تسبب عنه الإنكار عليهم في عدم الاعتبار، فعد أسفارهم- التي كانوا يرون فيها هذه القرى على الوجه الذي أخر به سبحانه لما كانت على ذلك الوجه- عدماً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا في الأرض‏}‏ أي وهم بصراء ينظرون بأعينهم ما يمرون عليه، من الآيات المرئية من القرى الظالمة المهلكة وغيرها، وقرينة الحث على السير دل على البصر‏.‏

ولما كان الجواب منصوباً، علم أنه منفي لأنه مسبب عن همزة الإنكار التي معناها النفي، وقد دخلت على النفي السير فنفته، فأثبتت السير عرياً عما أفاده الجواب، وهو قوله ‏{‏فتكون‏}‏ أي فيتسبب عن سيرهم أن تكون ‏{‏لهم قلوب‏}‏ واعية ‏{‏يعقلون بها‏}‏ ما رأوه بأبصارهم في الآيات المرئيات من الدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته على الإحياء والإماتة متى أراد فيعتبروا به، فانتفاء القلوب الموصوفة متوقف على نفي السير الذي هو إثبات السير، وكذا الكلام في الآذان من قوله ‏{‏أو‏}‏ أي أو تكون لهم إن كانوا عمي الأبصار كما دل عليه جعل هذا قسيماً ‏{‏آذان يسمعون بها‏}‏ الآيات المسموعة المترجمة عن تلك القرى وغيرها سواء ساروا أو لم يسيروا، إن كانت بصائرهم غير نافذة الفهم بمجرد الرؤية فيتدبروها بقلوبهم، فإنه لا يضرهم فقد الأبصار عند وجود البصائر‏.‏

ولما كان الضار للإنسان إنما هو عمى البصائر دون الأبصار، نفى العمى أصلاً عن الأبصار لعدم ضرورة مع إنارة البصائر، وخصه بالبصئر لوجود الضرر به ولو وجدت الأبصار، مسبباً عما مضى مع ما أرشد إليه من التقدير، فقال‏:‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار‏}‏ أي لعدم الضرر بعماها المستنير البصيرة ‏{‏ولكن تعمى القلوب‏}‏ وأكد المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏التي في الصدور*‏}‏ لوجود الضرر بعماها المبطل لمنفعة صاحبها وإن كان البصر موجداً، فاحتيج في تصوير عماها إلى زيادة تعيين لما تعورف من أن العمى إنما هو للبصر، إعلاماً بأن القلوب ما ذكرت غلطاً، بل عمداً، تنبيهاً على أن عمى البصر عدم بالنسبة لى عماها، والمراد بالقلب لطيفة ربانية روحانية مودعة في اللحم الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر، لديه تعلق‏.‏‏.‏‏.‏ عقول الأكثر في أنه يضاهي تعلق العرض بالجسم، أو الصفة بالموصوف، أو المتمكن بمكان وهذه اللطيفة على حقيقة الإنسان سميت قلباً للمجاورة والتعلق، وهي كالفارس والبدن كله كالفرس، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس، بل لا نسبة لأحد الضررين بالآخرة، فلذلك نفى عمى الأبصار أصلاً ورأساً، فلا شيء ضرره بالنسبة إلى عمى البصائر‏.‏

ولما قدم سبحانه أن الضال المضل له خزي في الدنيا، وقدم أنه يدفع عن الذين آمنوا وينصرهم، وساق الدليل الشهودي على ذلك لمن كان جامد الفهم، مقيداً بالوهم، بالقرى الظالمة التي أنجز هلاكها، وختم بإنكار عماهم عن ظاهر الآيات البينات، قال عاطفاً على ‏{‏ومن الناس من يجادل‏}‏ معجباً منهم وموضحاً لعماهم‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك‏}‏ ويجوز وهو أحسن أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل ‏{‏يسيروا‏}‏ فيكون مما أنكر عليهم ‏{‏بالعذاب‏}‏ الذي تتوعدهم به تكذيباً واستهزاء، ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏لن يخلف الله‏}‏ الذي لا كفوء له ‏{‏وعده‏}‏ فلا بد من وقوعه لكن الطويل عندهم من الزمن قصير عنده، وقد ينجز الوعد وقد يؤخره بعد الوعيد إلى حين يوم أو أقل أو أكثر، لأن قضاءه سبق أنه لا يكون إلا فيه لحكم يظهرها لمن يشاء من عباده ‏{‏وإن يوماً‏}‏ أي واحداً ‏{‏عند ربك‏}‏ أي المحسن إليك بتأخير العذاب عنهم إكراماً لك ‏{‏كألف سنة‏}‏ ولما كان المقصود هنا التطويل، فعبر بالسنة تنبيهاً عليه؛ ولما كانت السنون قد تختلف قال‏:‏ ‏{‏مما تعدون*‏}‏ لأن أيامكم تناسب أوهامكم، وأزمانكم تناسب شأنكم، وهو حليم لا يستطيل الزمان، وقادر لا يخاف الفوت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 52‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

ولما دل على نصر أوليائه، وقسر أعدائه، بشهادة تلك القرى، وختم بالتعجيب من استعجالهم مع ما شاهدوا من إهلاك أمثالهم، وأعلمهم ما هو عليه من الأناة، واتساع العظمة، وكبر المقدار، عطف على ‏{‏فكأين‏}‏ محذراً من نكاله، بعد طويل إمهاله، قوله‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية‏}‏ أي من أهلها ‏{‏أمليت لها‏}‏ أي أمهلتها كما أمهلتكم ‏{‏وهي ظالمة‏}‏ كظلمكم بالاستعجال وغيره ‏{‏ثم أخذتها‏}‏ أي بالعذاب ‏{‏وإليّ المصير*‏}‏ بانقطاع كل حكم دون حكمي، كما كان مني البدء، فلم يقدر أحد أن يمنع من خلق ما أردت خلقه، ولا أن يخلق ما لم أرد خلقه، فلا تغتروا بالإمهال، وإن تمادت الأيام والليالي، واحذروا عواقب الوبال، وإن بلغتم ما أردتم من الآمال، ولعله إنما طوى ذكر البدء، لأنه احتجب فيه بالأسباب فغلب فيه اسمه الباطن، ولذلك ضل في هذه الدار أكثر الخلق وقوفاً مع الأسباب‏.‏

ولما كان الاستعجال بالأفعال لا يطلب من الرسول، وكان الإخبار باستهزائهم وشدة عماهم ربما أفهم الإذن في الإعراض عنهم أصلاً ورأساً قال سبحانه وتعالى مزيلاً لذلك منبهاً على أن مثله إنما يطلب من المرسل، لا من الرسول‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهم، ولا يصدنك عن دعائهم ما أخبرناك به من عماهم ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ أي جميعاً من قومي وغيرهم ‏{‏إنما أنا لكم نذير‏}‏ أي وبشير، وإنما طواه لأن المقام للتخويف، ويلزم منه الأمن للمنتهى فتأتي البشارة، ولأن النذارة هي المقصود الأعظم من الدعوة، لأنه لا يقدم عليها إلا المؤيدون بروح من الله ‏{‏مبين*‏}‏ أي لكل ما ينفعكم لتلزموه‏.‏ ويضركم فتتركوه لا إله، أعجل لكم العذاب؛ ثم تسبب عن كونه مبيناً العلم بأن وصف البشارة مراد وإن طوي، فدل عليه سبحانه بقوله تفضيلاً لأهل البشارة والنذارة‏:‏ ‏{‏فالذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان ‏{‏وعملوا‏}‏ أي تصديقاً لدعواهم ذلك ‏{‏الصالحات لهم مغفرة‏}‏ لما فرط منهم من التقصير لأنه لن يقد أحد أن يقدر الله حق قدره‏.‏

ولما كان هذا أول الإذن في القتال، الموجب لمنابذة الكفار، ومهاجرة الأهل والأموال والديار، وكان ذلك- مع كونه في غاية الشدة- موجباً للفقر عادة، قال محققاً له ومنبهاً على أنه سبب الرزق‏:‏ ‏{‏ورزق‏}‏ أي في الدنيا بالغنائم وغيرها، والآخرة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ‏{‏كريم*‏}‏ لا خسة فيه ولا دناءة بانقطاع ولا غيره أصلاً ما داموا على الاتصاف بذلك، هذا فعل ربهم بهم عكس ما وصف به مدعو الكفار من أن ضره أقرب من نفعه‏.‏

ولما كان في سياق الإنذار، قال معبراً بالماضي زيادة في التخويف‏:‏ ‏{‏والذين سعوا‏}‏ أي أوقعوا السعي ولو مرة واحدة بشبهة من الشبه ونحوها ‏{‏في آياتنا‏}‏ أي التي نصبناها للدلالة علينا مرئية أو مسموعة ‏{‏معاجزين‏}‏ أي مبالغين في فعل ما يلزم- في زعمهم- منه عجزنا، ومعجزين، أي مقدرين أنهم يعجزوننا بإخفائهم آياتنا، وإضلال الناس وصدهم عهنا بألقاء الشبه والجدال، اتباعاً للشيطان المريد، من غير علم ولا هدى ولا كتب منير كشبه الاتحادية الذين راج أمرهم على كثير من الناس مع أنه لا شيء أوهى من شبههم ولا أظهر بطلاناً، ولذلك راج أمرها على أهل الغباوة، فإن الداعية منهم يقول لمن يغره‏:‏ هذا الظاهر من الكلام لا يقول به عاقل، فالمراد به أسرار دقيقة، وراء طور العقل، لا يوصل إليه إلا بالرياضة والكشف، وما درى المغرور أن أبا طالب كان أعقل من هذا الذي ينسب إليه ذلك الكفر الظاهر، فإن شعره أحسن من شعره، وبديهته أعظم من بديهته، ورؤيته أحكم من رؤيته، وقد رأى من الآيات من النبي صلى الله عليه وسلم ما لا مزيد عليه، مع أن له من القرابة ما هو معروف، ومن المحبة ما يفوت الحصر، ومع ذلك فقد أصرّ من الضلال ما لا يرضاه حمار لو نطق، على أن هذا المغرور قد لزمه- بتحسين الظن بهؤلاء الكفرة- إساءة الظن بأشرف الخلق‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله

«من رأى منكم منكراً»- الحديث الذي في بعض رواياته‏:‏ «وليس وراء ذلك أي الإنكار بالقلب- مثقال حبة من إيمان» وقد أفردت لبيان ضلالهم كتباً لما استطار من شرهم، ومس من ضرهم، منها المطول والمختصر، لا مزيد على بيانها وظهور سلطانها ‏{‏أولئك‏}‏ البعداء البغضاء ‏{‏أصحاب الجحيم*‏}‏ أي استحقاقاً بما سعوا، فإن شاء تاب عليهم، وإن شاء كبهم فيها، ليعلموا أنهم هم العاجزون، هذا في الآخرة، وسيظهر سبحانه في الدنيا أيضاً عجزهم، بكشف شبههم ومج القلوب النيرة لها، مع ذلهم وانكسارهم، وهوانهم وصغارهم، حتى لا يقدروا أن ينطقوا من ذلك ببنت شفة، علماً منهم أن مثلها لا يقوله عاقل‏.‏

ولما لاح من ذلك أن الشيطان ألقى للكفار شبهاً، يعاجزون بها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بإظهاره، وتقرير وإشهاره، عطف عليه تسلية له صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏من قبلك‏}‏ ثم أكد الاستغراق بقوله‏:‏ ‏{‏من رسول‏}‏ أي من ملك أو بشر بشريعة جديدة يدعو إليها ‏{‏ولا نبي‏}‏ سواء كان رسولاً أو لا، مقرر بالحفظ لشريعة سابقة- كذا قال البيضاوي وغيره في الرسول وهو منقوص بأنبياء بني أسرائيل الذين بين موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فإن الله تعالى سماهم رسلاً في غير آية منها ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏ فالصواب أن يقال‏:‏ النبي إنسان أوحي إليه بشرع جديد أو مقرر، فإن أمر بالتبليغ فرسول أيضاً، والتقييد بشرع لإخراج مريم وغيرها من الأولياء ‏{‏إلا إذا تمنى‏}‏ أي تلا على الناس ما أمره الله به أو حدثهم به واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم ‏{‏ألقى الشيطان في أمنيته‏}‏ أي ما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل، من الشبه والتخيلات ما يتلقفه منه أولياءه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم

‏{‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏ كما يفعل هؤلاء فيما يغيرون به في وجه الشريعة أصولاً وفروعاً من قولهم‏:‏ إن القرآن شعر وسحر وكهانة، وقولهم ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ وقولهم ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ وقولهم‏:‏ إن ما قلته الله بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح، وقولهم‏:‏ نحن أهل الله وسكان حرمه، لا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمعشر الحرام ويقف الناس بعرفة، ونحن نطوف قي ثيابنا وكذا من ولدناه، وأما غيرنا فلا يطوف إلا عرياناً ذكراً ان أو أنثى إلا أن يعطيه أحد منا ما يلبسه، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية وأنظارهم التي ألحدوا فيها، يضل بها من يشاء الله ثم يمحوها من أراد من عباده وما أراد من أمره ‏{‏فينسخ‏}‏ أي فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ ‏{‏الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏ما يلقي الشيطان‏}‏ فيبطله بإيضاح أمره ومج القلوب له‏.‏

ولما كان إبطاله سبحانه للشبه إبطالاً محكماً، لا يتطرق إليه لعلو رتبة بيانه- شبهة أصلاً، عبر بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم يحكم الله‏}‏ أي الملك الذي لا كفوء له ‏{‏آياته‏}‏ أي يجعلها جلية فيما أريد منها، وأدل دليل على أن هذا هو المراد مع الافتتاح بالمعاجزة في الآيات- الختام بقوله عطفاً على ما تقديره‏:‏ فالله على ما يشاء قدير‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏عليم‏}‏ أي بنفي الشبه ‏{‏حكيم*‏}‏ بإيراد الكلام على وجه لا تؤثر فيه عند من له أدنى بصيرة، وكذا ما مضى في السورة ويأتي من ذكر الجدال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 58‏]‏

‏{‏لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

ولما ذكر سبحانه ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء، ذكر العلة في ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان‏}‏ أي في المتلو أو المحدث به من تلك الشبه في قلوب أوليائه ‏{‏فتنة‏}‏ أي اختباراً وامتحاناً ‏{‏للذين في قلوبهم مرض‏}‏ لسفولها عن حد الاعتدال من اللين حتى صارت مائيته تقبل كل صورة ولا يثبت فيها صورة، وهم أهل النفاق المتلقفون للشبه الملقون لها ‏{‏والقاسية قلوبهم‏}‏ عن فهم الآيات، وهم من علت قلوبهم عن ذلك الجدال أن صارت حجرية، وهم المصارحون بالعداوة، فهم في ريب من أمرهم وجدال للمؤمنين، قد انتقشت فيها الشبه، فصارت أبعد شيء عن الزوال‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فإنهم حزب الشيطان، وأعداء الرحمن، عطف عليه قوله‏.‏ وإنهم هكذا الأصل، ولكنه أظهر تنبيهاً على وصفهم فقال‏:‏ ‏{‏وإن الظالمين‏}‏ أي الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في غير مواضعها كفعل من هو في الظلام ‏{‏لفي شقاق‏}‏ أي خلاف بكونهم في شق غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك الشبه التي تلقوها من الشيطان، وجادلوا بها أولياء الرحمن ‏{‏بعيد*‏}‏ عن الصواب ‏{‏ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 113‏]‏ ‏{‏وليعلم الذين أوتوا العلم‏}‏ بإتقان حججه، وإحكام براهينه، وضعف شبه المعاجزين، وبني فعله للمجهول تعظيماً لثمرته في حد ذاته لا بالنسبة إلى معط معين ‏{‏أنه‏}‏ أي الشيء الذي تلوته أو حدثت به ‏{‏الحق‏}‏ أي الثابت الذي لا يمكن زواله ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك بتعليمك إياه، فإن الحق كلما جودل أهله ظهرت حججه، وأسفرت وجوهه، ووضحت براهينه، وغمرت لججه، كما قال تعالى ‏{‏يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏فيؤمنوا به‏}‏ لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبه ‏{‏فتخبت‏}‏ أي تطمئن وتخضع ‏{‏له قلوبهم‏}‏ وتسكن به قلوبهم، فإن الله جعل فيها السكينة فجعلها زجاجية صلبة صافية رقيقة بين المائية والحجرية، نافعة بفهم العلم وحفظه والهداية به لمن يقبل عنهم من الضالين كما ينفع الخبث بقبول طائفة منه لطائفة من الماء، وإنبات ما يقدره الله من الكلاء وغيره وحفظ طائفة أخرى لطائفة أخرى منه لشرب الحيوان ‏{‏وإن الله‏}‏ بجلاله وعظمته لهاديهم، ولكنه أظهر تنبيهاً على سبب العلم فقال‏:‏ ‏{‏لهاد الذين آمنوا‏}‏ في جميع ما يلقيه أولياء الشيطان ‏{‏إلى صراط مستقيم*‏}‏ يصلون به إلى معرفة بطلانه، فيوصلهم ذلك إلى سعادة الدارين ‏{‏ولا يزال الذين كفروا‏}‏ أي وجد منهم الكفر وطبعوا عليه ‏{‏في مرية‏}‏ أي شك يطلبون السكون إليه ‏{‏منه‏}‏ أي من أجل إلقاء الشيطان وما ألقاه، أو مبتدئ منه ‏{‏حتى تأتيهم الساعة‏}‏ أي الموت أو القيامة ‏{‏بغتة‏}‏ أي فجأة بموتهم حتف الأنف ‏{‏أو يأتيهم عذاب يوم عقيم*‏}‏ يقتل فيه جميع أبنائهم منهم ولا يكون لهم فيه شيء مما يترجونه من نصر أو غيره كما سعوا بجدلهم وإلقاء الضلالات في إعقام الآيات، فإذا انكشف لهم الغطاء بالساعة أو العذاب الموصل إلى حد الغرغرة آمنوا دأب البهائم التي لا ترى إلا الجزئيات، فلم ينفعهم ذلك لفوات شرطه، وقد زالت بحمد الله عن هذه الآية- بما قررته الشكوك، وانفضحت مخيلات الشبه، وانقمعت مضلات الفتن، من قصة الغرانيق وما شاكلها مما يتعالى عنه ذلك الجناب الرفيع، والحمى العظيم المنيع، ولم يصح شيء من ذلك كما صرح به الحافظ عماد الدين ابن كثير وغيره كيف وقد منع الشيطان من مثاله صلى الله عليه وسلم في المنام، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه

«من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي» وقد تولى الله سبحانه حفظ الذكر الحكيم بحراسة السماوات وغيرها ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏{‏إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 27‏]‏‏.‏

ولما كانوا من الكثرة والقوة بمكان كان كأنه قيل‏:‏ كيف يغلبون‏؟‏ فقال جواباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏الملك يومئذ‏}‏ أي يوم إذ يأتيهم ذلك إما في القيامة أو في الدنيا ‏{‏لله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال وحد بتغليب اسمه الظاهر، بأن يجري أمره فيه على غير الأسباب التي تعرفونها‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما معنى اختصاصه به وكل الأيام له‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏يحكم بينهم‏}‏ أي بين المؤمنين والكافرين بالأمر الفيصل، لا حكم فيه ظاهراً ولا باطناً لغيره، كما ترونه الآن، بل يمشي فيه الأمر على أتم قوانين العدل، ولذلك سبب ظهور العدل عنه قوله مفصلاً بادئاً‏.‏ إظهاراً لتفرده بالحكم بإكرام من كانوا قاطعين بهوانهم في الدارين مع أن تقديمهم أوفق لمقصود السورة‏:‏ ‏{‏فالذين آمنوا وعملوا‏}‏ أي وصدقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا ‏{‏الصالحات‏}‏ وهي ما أمرهم الله به‏.‏

ولما كانت إثابته تعالى لأهل طاعته تفضلاً منه، نبه على ذلك بإعراء الخبر عن الفاء السببية بخلاف ما يأتي في حق الكفار فقال‏:‏ ‏{‏في جنات النعيم*‏}‏ في الدنيا مجازاً، لمآلهم إليهم مع ما يجدونه من لذة المناجاة واستشعار القرب وفي الآخرة حقيقة بما رحمهم الله به من توفيقهم للأعمال الصالحة ‏{‏والذين كفروا‏}‏ أي غطوا ما أعطيناهم من المعرفة بالأدلة على وحدانيتنا ‏{‏وكذبوا بآياتنا‏}‏ ساعين- بما أعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه، وقرن الخبر بالفاء إيذاناً بأنه مسبب عن كفرهم فقال‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ أي البعداء عن أسباب الكرم ‏{‏لهم عذاب مهين*‏}‏ بسبب ما سعوا في إهانة آياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتها والتكبر عن اتباعها‏.‏

ولما كان المشركون يمنعون بهذ الشبه وغيرها كثيراً من الناس الإيمان، وكانوا لا يتمكنون بها إلا ممن يخالطهم، رغب سبحانه في ا لهجرة فقال‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا‏}‏ أي أوقعوا هجرة ديارهم وأهليهم ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي طريق ذي الجلال والإكرام التي شرعها، فكانت ظرفاً لمهاجرتهم، فلم يكن لهم بها غرض آخر‏.‏ ولما كان أكثر ما يخاف من الهجرة القتل‏.‏ لقصد الأعداء للمهاجر بالمصادمة، عند تحقق المصارمة، قال معبراً بأداة التراخي إشارة إلى طول العمر وعلو الرتبة بسبب الهجرة‏:‏ ‏{‏ثم قتلوا‏}‏ أي بعد الهجرة، وألحق به مطلق الموت فضلاً منه فقال‏:‏ ‏{‏أو ماتوا‏}‏ أي من غير قتل ‏{‏ليرزقنهم الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏رزقاً حسناً‏}‏ من حين تفارق أرواحهم أشباحهم لأنهم أحياء عند ربهم، وذلك لأنهم أرضوا الله بما انخلعوا منه مما أثلوه طول أعمارهم‏.‏ وأثله آباؤهم من قبلهم، وأموالهم وأهليهم وديارهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن الله فعال ما يريد من إحيائهم ورزقهم وغيره، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإن الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال بعظمته وقدرته على الإحياء كما قدر على الإماتة ‏{‏لهو خير الرازقين*‏}‏ يرزق الخلق عامة البر منهم والفاجر، فكيف بمن هاجر إليه‏!‏ ويعطي عطاء لا يدخله عد، ولا يحويه حد، وكما دلت الآية على تسوية من مات في سبيل الله برباط أو غيره في الرزق بالشهيد، دلت السنة أيضاً من حديث سلمان وغيره رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من مات مرابطاً أجري عليه الرزق وأمن الفتانين»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 63‏]‏

‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار، وكان ذلك من أفضل الرزق، قال دالاً على ختام التي قبل‏:‏ ‏{‏ليدخلنهم مدخلاً‏}‏ أي دخولاً ومكان دخول قراءة نافع وأبي جعفر بفتح الميم، وإدخالاً ومكان إدخال على قراءة الباقين ‏{‏يرضونه‏}‏ لا يبغون به بدلاً، بما أرضوه به بما خرجوا منه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن الله لشكور حميد، وكان من المعلوم قطعاً أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره وإن اجتهد، لأن الإنسان محل الخطأ والنسيان، فلو أوخذ بذلك هلك، وكان ربما ظن ظان أنه لو علم ما قصروا فيه لغضب عليهم، عطف على ما قدرته قوله‏:‏ ‏{‏وإن الله‏}‏ أي الذي عمت رحمته وتمت عظمته ‏{‏لعليم‏}‏ أي بمقاصدهم وما علموا مما يرضيه وغيره ‏{‏حليم*‏}‏ عما قصروا فيه من طاعته، وما فرطوا في جنبه سبحانه‏.‏

ولما ختم هذه الآيات- التي الإذن للمظلومين في القتال للظالمين- بصفة الحلم، فكان ذلك مخيلة لوجوب العفو عن حقوق العباد كما في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، نفى ذلك بقوله إذناً للمجهارين فيمن أخرجهم من ديارهم أن يخرجوه من دياره ويذيقوه بعض ما توعده الله به من العذاب المهين‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر المقرر من صفة الله تعالى ذلك ‏{‏ومن عاقب‏}‏ من العباد بأن أصاب خصمه، لمصيبة يرجو فيها العاقبة ‏{‏بمثل ما عوقب‏}‏ أي عولج علاج من يطلب حسن العاقبة ‏{‏به‏}‏ من أي معاقب كان فلم يتجاوز إلى ظلم ‏{‏ثم بغي‏}‏ أي من أيّ باغ كان ‏{‏عليه‏}‏ بالعود إلى خصومته لأخذه حقه‏.‏

ولما كان ما يحصل للمبغي عليه بالكسر عوداً على بدء من الذل والهوان مبعداً لأن ينجبر، أكد وعده فقال‏:‏ ‏{‏لينصرنه الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له‏.‏

ولما قيد ذلك بالمثلية، وكان أمراً خفياً، لا يكاد يوقف عليه، فكان ربما وقعت المجاوزة خطأ، فظن عدم النصرة لذلك، أفهم تعالى أن المؤاخذة إنما هي بالعمد، بقوله؛ ويجوز أن يكون التقدير ندباً إلى العفو بعد ضمان النصر‏:‏ إن الله لعزيز حكيم، ومن عفا وأصلح فقد تعرض لعفو الله عن تقصيره، ومغفرته لذنوبه، فهو احتباك‏:‏ ذكر النصرة دليل العزة والحكمة، وذكر العفو منه سبحانه دليل حذف العفو من العبد ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏لعفو‏}‏ أي عمن اقتص ممن ظلمه أول مرة ‏{‏غفور*‏}‏ لمن اقتص ممن بغى عليه‏.‏

ولما ختم بهذين الوصفينن ذكر من الدليل عليهما أمراً جامعاً للمصالح، عاماً للخلائق، يكون فيه وبه الإحسان بالخلق والرزق فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي معرفة اتصافه سبحانه بهذين الوصفين ‏{‏بأن الله‏}‏ المتصف بجميع صفات الكمال ‏{‏يولج‏}‏ لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن ‏{‏الليل في النهار‏}‏ فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار ‏{‏ويولج النهار في الليل‏}‏ فينسخ ضياءه بظلامه، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو يطول أحدهما حيث يراد استيلاء ما طبع عليه على ضد ما طبع عليه آخر لما يراد من المصالح التي جعل ذلك لأجلها ‏{‏وأن الله‏}‏ بجلاله وعظمته ‏{‏سميع‏}‏ لما يمكن أن يسمع ‏{‏بصير*‏}‏ أي مبصر عالم لما يمكن أن يبصر دائم الاتصاف بذلك فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر، لأنه منزه عن الأعراض، وهو لتمام قدرته وعلمه لا يخاف في عفوه غائلة، ولا يمكن أن يفوته أمر، أو يكون التقدير‏:‏ ذلك النصر والعفو بأنه قادر وبأنه عالم‏.‏

ولما وصف نفسه سبحانه بما ليس لغيره فبان بذلك نقير ما سواه بفعله علله بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم ‏{‏بأن الله‏}‏ الحاوي لصفات الكمال، القادر على إخراج المعدوم وتجديد ما فات، من نشر الأموات وغيره ‏{‏هو‏}‏ وحده ‏{‏الحق‏}‏ أي الواجب الوجود ‏{‏وأن ما يدعون‏}‏ أي دعاء عبادة وهم لا يسمعون‏.‏

ولما كان سبحانه فوق كل شيء بقهره وسلطانه، قال محقراً لهم‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ أي من هذه الأصنام وغيرها، ولم يتقدم هنا من الدليل على بطلان الأوثان مثل ما ذكره في لقمان الداعي الحال إلى التأكيد بضمير الفصل فقال‏:‏ ‏{‏هو الباطل‏}‏ لأنه ممكن وجوده وعدمه، فليس له من ذاته إلا العدم كغيره من الممكنات ‏{‏وأن الله‏}‏ لكونه هو الحق الذي لا كفوء له ‏{‏هو‏}‏ وحده ‏{‏العلي الكبير*‏}‏ وكل ما سواه سافل حقير، تحت قهره وأمره، فهو يحيي الموتى كما تقدم أول السورة‏.‏

ولما دل ما تضمنه رزقه سبحانه للميت في سبيله بقتل أو غيره على إحيائه له، ودل سبحانه على ذلك وعلى أنه خير الرازقين بما له من العظمة، وختم بهذين الوصفين، أتبعه دليلاً آخر على ذلك كله بآية مشاهدة جامعة بين العالم العلوي والسفلي قاضية بعلوه وكبره، فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي أيها المخاطب ‏{‏أن الله‏}‏ أي المحيط قدرة وعلماً ‏{‏أنزل من السماء ماء‏}‏ بأن يرسل رياحاً فتثير سحاباً فيمطر على الأرض الملساء‏.‏

ولما كان هذا الاستفهام المتلو بالنفي في معنى الإثبات لرؤية الإنزال لكونه فيه معنى الإنكار، عطف على ‏{‏أنزل‏}‏ معقباً له على حسب العادة قوله، معبراً بالمضارع تنبيهاً على عظمة النعمة بطول زمان أثر المطر وتجدد نفعه‏:‏ ‏{‏فتصبح الأرض‏}‏ أي بعد أن كانت مسودة يابسة، ميتة هامدة ‏{‏مخضرة‏}‏ حية يانعة، مهتزة نامية، بما فيه رزق العبادة، وعمار البلاد، ولم ينصب على أنه جوابه لئلا يفيد نفي الاخضرار، وذلك لأن الاستفهام من حيث فيه معنى الإنكار نفي لنفي رؤية الإنزال الذي هو إثبات الرؤية، فيكون ما جعل جواباً له منفياً، لأن الجواب متوقف على ما هو جوابه، فإذا نفى ما عليه التوقف انتفى المتوقف عليه، أي إذا نفى الملزوم انتفى اللازم، وإذا نفي السبب انتفى المسبب- كما تقدم «فتكون لهم قلوب» فلو نصب «يصبح» على أنه جواب الاستفهام لكان المعنى أن عدم الاخضرار متوقف على نفي النفي للإنزال الذي هو إثبات الإنزال، وهو واضح الفساد- أفاده شيخنا الإمام أبو الفضل رحمه الله‏.‏

ولما كان هذا إنتاجاً للأشياء من أضدادها، لأن كلاًّ من الماء في رقته وميوعه والتراب في كثافته، وجموده في غاية البعد عن النبات في تنوعه وخضرته، ونموه وبهجته، قال سبحانه وتعالى منبهاً على ذلك‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له تمام العز وكمال العلم ‏{‏لطيف‏}‏ أي يسبب الأشياء عن أضدادها ‏{‏خبير*‏}‏ أي مطلع على السرائر وإن دقت، فلا يستبعد عليه إحياء من أراد بعد موته، والإحسان في رزقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 67‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏‏}‏

ولما اقتضى ذلك أنهى التصرف، لأنه لا بد بعد اختلاط الماء بالتراب من أمور ينشأ عنها النبات، على تلك الهيئات الغريبة المختلفة، فأوجب ذلك أن يكون هو المالك المطلق، قال‏:‏ ‏{‏له ما في السماوات‏}‏ أي التي أنزل منها الماء، ولما كان السباق لإثبات البعث والانفراد بالملك والدلالة على ذلك، اقتضى الحال التأكيد بإعادة الموصول فقال‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ أي التي استقر فيها، وذلك يقتضي ملك السماوات والأرضين، فإن كل واحدة منها في التي فوقها حتى ينتهي الأمر إلى عرشه سبحانه الذي لا يجوز أصلاً أن يكون لغيره‏.‏

ولما كان من المألوف عندنا أن المالك فقير إلى ما في يده؛ مذموم على إمساكه بالتقتير، وعلى بذله بالتبذير، بين أنه بخلاف ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وإن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة التامة ‏{‏لهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الغني‏}‏ أي عنهما وعما فيهما، ما خلق شيئاً منهما أو فيهما لحاجة له إليه بل لحاجتكم أنتم إليه ‏{‏الحميد*‏}‏ في كل ما يعطيه أو يمنعه، لما في ذلك من الحكم الخفية والجلية؛ ثم استدل على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي أيها المخاطب ‏{‏أن الله‏}‏ أي الحائز لصقفات الكمال، من الجلال والجمال ‏{‏سخّر لكم‏}‏ فضلاً منه ‏{‏ما في الأرض‏}‏ كله من مسالكها وفجاجها وما فيها من حيوان وجماد، وزروع وثمار، فعلم أنه غير محتاج إلى شيء منه

ولما كان تسخير السلوك في البحر من أعجب العجب، قال‏:‏ ‏{‏والفلك‏}‏ أي وسخرها لكم موسقة بما تريدون من البضائع‏.‏ ثم بين تسخيرها بقوله‏:‏ ‏{‏تجري في البحر‏}‏ أي العجاج، المتلاطم بالأمواج، بريح طيبة على لطف وتؤدة‏.‏

ولما كان الراكب فيها- مع حثيث السير وسرعة المر- مستقراً كأنه على الأرض، عظم الشأن في سيرها بقوله‏:‏ ‏{‏بأمره‏}‏ ولما كان إمساكها على وجه الماء مع لطافته عن الغرق أمراً غريباً كإمساك السماء على متن الهواء عن الوقوع، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏ويمسك السماء‏}‏ ثم فسر ذلك بقوله مبدلاً‏:‏ ‏{‏أن تقع‏}‏ أي مع علوها وعظمها وكونها بغير عماد ‏{‏على الأرض‏}‏ التي هي تحتها‏.‏

ولما اقتضى السياق أنه لا بد أن تقع لانحلاله إلى أن يمنع وقوعها لأنها جسم كثيف عظيم، ليس له من طبعه إلا السفول، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ أي فيقع إذا أذن في وقوعها حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء‏.‏ ولما كان هذا الجود الأعظم والتدبير المحكم محض كرم من غير حاجة أصلاً، أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الخلق والأمر‏.‏

ولما كان الجماد كله متاعاً للحيوان، اقتضى تقديم قوله‏:‏ ‏{‏بالناس‏}‏ أي على ظلمهم ‏{‏لرؤوف‏}‏ أي بما يحفظ من سرائرهم عن الزيغ بإرسال الرسل، وإنزال الكتب ونصب المناسك، التي يجمع معظمها البيت الذي بوأه لإبراهيم عليه السلام، وهو التوحيد والصلاة والحج الحامل على التقوى التي بنيت عليها السورة، فإن الرأفة كما قال الحرالي‏:‏ ألطف الرحمة وأبلغها، فالمرؤوف به تقيمه عناية الرأفة حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو، وتارة يكن هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب، وهذا خاص بمن له بالمنعم نوع وصلة‏.‏

‏{‏رحيم*‏}‏ بما يثبت لهم عموماً من الدرجات على ما منحهم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية لما تقدم في الفاتحة من أن الرحيم خاص الرحمة بما ترضاه الإلهية، وتقدم في البقرة تحقيق هذا الموضع‏.‏

ولما بين سبحانه جملاً من أمهات الدين، وأتبعها الإعانة لأهله على المعتدين، وختم بما بعد الموت للمهاجرين، ترغيباً في منابذة الكافرين، وعرّف بما له من تمام العلم وشمول القدرة، ومثل ذلك بأنواع من التصرف في خلق السماوات والأرضين، وأنهاه بالدلالة على أنه كله لنفع الآدميين نعمة منه، تلا ذلك بما هو أكبر منه نعمة عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي أحياكم‏}‏ أي عن الجمادية بعد أن أوجدكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً، منة منه عليكم مستقلة، لزم منها المنة بما تقدم ذكره من المنافع الدنيوية لتستمر حياتكم أولاً، الدينية لتنتفعوا بالبقاء ثانياً ‏{‏ثم يميتكم‏}‏ ليكون الموت واعظاً لأولي البصائر منكم، وزاجراً لهم عما طبعوا عليه من الأخلاق المذمومة ‏{‏ثم يحييكم‏}‏ للتحلي بفصل القضاء وإظهار العدل في الجزاء‏.‏

ولما علم أن كل ما في الوجود من جوهر وعرض نعمة على الإنسان حتى الحياة والموت، وكان من أجلى الأشياء، وكانت أفعاله معرضة عن الرب هذه النعم بالعبادة لغيره، أو التقصير في حقه على عموم فضله وخيره، ختم الآية سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لكفور*‏}‏ أي بليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به‏.‏

ولما تقدم ذكر المناسك، وكان لكثرة الكفار قد يقع في النفس أن إقامتها معجوز عنها، وكشف سبحانه غمة هذا السؤال بآية ‏{‏إن الله يدافع عن الذين آمنوا‏}‏ وما بعدها، فأنتج ذلك علمنا بتصرفه التام بقدرته الباهرة، وعلمه الشامل المقتضي لإقبال العباد إليه، واجتماعهم كلهم عليه، فمن شك في قدرته على إظهار دينه بمدافعته عن أهله، أو نازع فيه فهو كفور، ذكر بإظهار أول هذا الخطاب بآخر ذلك الخطاب مؤكداً لما أجاب به عن ذلك السؤال من تمام القدرة وشمول العلم أنه هو الذي مكن لكل قوم ما هم فيه من المناسك التي بها انتظام الحياة، فإن وافقت الأمر الإلهي كانت سبباً للحياة الأبدية، وإلا كانت سبباً للهلاك الدائم، وهو سبحانه الذي نصب من الشرائع لكل قوم ما يلائمهم، لأنه بتغيير الزمان بإيلاج الليل في النهار على مر الأيام وتوالي الشهور والأعوام، بسبب من الأسباب- لأجل امتحان العباد، وإظهار ما خبأ في جبلة كل منهم من طاعة وعصيان، وشكر وكفران- ما يصير الفعل مصلحة بما يقتضيه من الأسباب بعد أن كان مفسدة وبالعكس، لاقتداره على كل شيء وإظهار اقتداره كما قال تعالى عند أول ذكره للنسخ

‏{‏ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ الآيات، فعلم أن منازعتهم فيه كفر، فلذلك أتبع هذا قوله من غير عاطف لما بينهما من تمام الاتصال‏:‏ ‏{‏لكل أمة‏}‏ أي في كل زمان ‏{‏جعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏منسكاً‏}‏ أي شرعاً لاجتماعهم به على خالقهم حيث وافق أمره، ولاجتماعهم على أهوائهم إذا لم يوافقه، وعن ابن جرير أن أصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو لشر‏.‏

ولما كان بحيث إن ما أراده سبحانه كان لا محالة، قال‏:‏ ‏{‏هم ناسكوه‏}‏ أي متعبدون به، لأنا ندافع عنهم من يعاديهم فيه حتى يستقيم لهم أمره، لإسعادهم به أو إشقائهم، فمن شك في قدرتنا على تمكينهم منه فهو كفور، فإن وافق الأمر كان ربحاً وإيماناً، وإن خالفه كان كفراً وخسراناً‏.‏

ولما كان قد حكم بإظهار دينه على الدين كله، وبأن الكفار على كثرتهم يغلبون بعد ما هم فيه من البطر، أعلم بذلك بالتعبير بصيغة الزجر لهم بقوله مسبباً عن هذه العظمة‏:‏ ‏{‏فلا ينازعنك في الأمر‏}‏ أي بما يلقيه الشيطان إليهم من الشبه ليجادلوا به، من طعنهم في دينك بالنسخ بقولهم‏:‏ لو كان من عند الله لما أمر اليوم بشيء ونهي عنه غداً‏.‏ لأنه يلزم منه البدء، فليس الأمر كما زعموا، بل هو دال على العم بالعواقب والاقتدار التام على شرع المذاهب، وغير ذلك من الشبه كما مضت الإشارة إليه، فلا يلتفت إليهم في شيء نازعوا فيه كائناً ما كان، وروي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح، وقولهم للمؤمنين‏:‏ تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم، ولا تأكلون ما قتل الله- يعنون الميتة‏.‏

ولما كان النهي عن المنازعة في الحقيقة له صلى الله عليه وسلم إلهاباً وتهييجاً إلى الإعراض عنهم لأنهم أهل لذلك، لأن كيدهم في تضليل، والإقبال على شأنه، وكان التعبير بما تقدم من تحويله إليهم لتأكيد الأمر مع دلالته على إجلاله صلى الله عليه وسلم عن المواجهة بالنهي، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وادع‏}‏ أي أوقع الدعوة لجميع الخلق ‏{‏إلى ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإرسالك، بالحمل لهم على كل ما أمرك به متى ما أمرك، ولا يهولنك قولهم، فإنهم مغلوبون لا محالة، ولا تتأمل عاقبة من العواقب، بل أقدم على الأمر وإن ظن أن فيه الهلاك، فإنه ليس عليك إلا ذلك‏.‏ وأما نظم الأمور على نهج السداد في إظهار الدين، وقهر المعاندين، فإلى الذي أمرك بتلك الأوامر، وأحكم الشأن في جميع الزواجر؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنك‏}‏ مؤكداً له بحسب ما عندهم من الإنكار ‏{‏لعلى هدى مستقيم*‏}‏ فإنه تأصيل العليم القدير وإن طرقه التغيير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 72‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

ولما أمره بالإقبال على ما يهمه، والإعراض عن منازعتهم، في صيغة نهيهم عن منازعته، علمه الجواب إن ارتكبوا منهيه بعد الاحتهاد في دفعهم، لما لهم من اللجاج والعتو، فقال‏:‏ ‏{‏وإن جادلوك‏}‏ أي في شيء من دينك بشيء مما تقدم من أقوالهم السفسافة أو بغيره ‏{‏فقل‏}‏ معرضاً عن عيب دينهم الذي لا أبين فساداً منه‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الملك المحيط بالعز والعلم ‏{‏أعلم بما تعملون*‏}‏ مهدداً لهم بذلك، مذكراً لنفسك بقدرة ربك، قاطعاً بذلك المنازعة من حيث رقّب، متوكلاً على الذي أمرك بذلك في حسن تدبيرك والمدافعة عنك ومجازاتهم بما سبق علمه به مما يستحقونه؛ قال الرازي في اللوامع‏:‏ وينبغي أن يتأدب بهذا كل أحد، فإن أهل الجدل قوم جاوزوا حد العوام بتحذلقهم، ولم يبلغوا درجة الخواص الذين عرفوا الأشياء على ما هي عليه، فالعوام منقادون للشريعة، والخواص يغرفون أسرارها وحقائقها، وأهل الجدل قوم في قلوبهم اضطراب وانزعاج‏.‏

ولما أمره بالإعراض عنهم، وكان ذلك شديداً على النفس لتشوفها إلى النصرة، رجاه في ذلك بقوله‏:‏ مستأنفاً مبدلاً من مقول الجزاء تحذيراً لهم‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له ‏{‏يحكم بينكم‏}‏ أي بينك مع أتباعك وبينهم ‏{‏يوم القيامة‏}‏ الذي هو يوم التغابن ‏{‏فيما كنتم‏}‏ أي بما هو لكم كالجبلة ‏{‏فيه‏}‏ أي خاصة ‏{‏تختلفون*‏}‏ في أمر الدين، ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حل به قبله ‏{‏وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 227‏]‏ قال البغوي‏:‏ والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر‏.‏

ولما كان حفظ ما يقع بينهم على كثرتهم في طول الأزمان أمراً هائلاً، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏ألم تعلم أن الله‏}‏ بجلال عزه وعظيم سلطانه ‏{‏يعلم ما في‏}‏ ولما كان السياق لحفظ أحوال الثقلين للحكم بينهم، وكان أكثر ما يتخيل أن بعض الجن يبلغ استراق السمع من السماء الدنيا، لم تدع حاجة إلى ذكر أكثر منها، فأفرد معبراً بما يشمل لكونه جنساً- الكثير أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏السماء والأرض‏}‏ مما يتفق منهم ومن غيرهم من جميع الخلائق الحيوانات وغيرها‏.‏

ولما كان الإنسان محل النسيان، لا يحفظ الأمور إلا بالكتاب، خاطبه بما يعرف، مع ما فيه من عجيب القدرة، فقال‏:‏ ‏{‏إن ذلك‏}‏ أي الأمرالعظيم ‏{‏في كتاب‏}‏ كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه وكتب جزاءه؛ ولما كان جمع ذلك في كتاب أمراً بالنسبة إلى الإنسان متعذراً، أتبعه التعريف بسهولته عنده فقال‏:‏ ‏{‏إن ذلك‏}‏ أي علم ذلك الأمر العظيم بلا كتاب، وجمعه في كتاب قبل كونه وبعده ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي لا حد لعظمته، وحده ‏{‏يسير*‏}‏‏.‏

ولما أخبر سبحانه أن الشك لا يزال ظرفاً لهم- لما يلقى الشيطان من شبهه في قلوبهم القابلة لذلك بما لها من المرض وما فيها من الفساد إلى إتيان الساعة، وعقب ذلك بما ذكر من الحكم المفصلة، والأحكام المشرفة المفضلة، إلى أن ختم بأنه وحده الحكم في الساعة، مرهباً من تمام علمه وشمول قدرته، قال معجباً ممن لا ينفعه الموعظة ولا يجوز الواجب وهو يوجب المحال، عاطفاً على ‏{‏ولا يزال‏}‏‏:‏ ‏{‏ويعبدون‏}‏ أي على سبيل التجديد والاستمرار ‏{‏من دون الله‏}‏ أي من أدنى رتبة من رتب الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال، وتنزهه عن شوائب النقص ‏{‏ما لم ينزل به سلطاناً‏}‏ أي حجة واحدة من الحجج‏.‏

ولما كان قد يتوهم أن عدم إنزال السلطان لا ينفيه، قال مزيلاً لهذا الوهم‏:‏ ‏{‏وما ليس لهم به علم‏}‏ أي أصلاً ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنهم ما لهم، ولكنه أظهر إشارة إلى الوصف الذي استحقوا به الهلاك فقال‏:‏ ‏{‏للظالمين‏}‏ أي الذين وضعوا التعبد في غير موضعه بارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر؛ وأكد النفي واستغرق المنفي بإثبات الجار فقال‏:‏ ‏{‏من نصير*‏}‏ أي ينصرهم من الله، لا مما أشركوه به ولا من غيره، لا في مدافعة عنهم ولا في إثبات حجة لمذاهبهم، فنفى أن يكون أحد يمكنه أن يأتي بنصرة تبلغ القصد بأن يغلب المنصور عليه، وأما مطلق نصر لا يفيد بما تقدم من شبه الشيطان فلا‏.‏

ولما ذكر اعترافهم بما لا يعرف بنقل ولا عقل، ذكر إنكارهم لما لا يصح أن ينكر فقال‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى‏}‏ أي على سبيل التجديد والمتابعة من أيّ تالٍ كان ‏{‏عليهم آياتنا‏}‏ أي المسموعة على ما لها من العظمة والعلو، حال كونها ‏{‏بينات‏}‏ لا خفاء بها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع ‏{‏تعرف‏}‏ بالفراسة في وجوههم- هكذا كان الأصل، ولكنه أبدل الضمير بظاهر يدل على عنادهم فقال‏:‏ ‏{‏في وجوه الذين كفروا‏}‏ أي تلبسوا بالكفر ‏{‏المنكر‏}‏ أي الإنكار الذي هو منكر في نفسه لما حصل لهم من الغيظ؛ ثم بين ما لاح في وجوههم فقال‏:‏ ‏{‏يكادون يسطون‏}‏ أي يوقعون السطوة بالبطش والعنف ‏{‏بالذين يتلون عليهم آياتنا‏}‏ أي الدالة على أسمائنا الحسنى، وصفاتنا العلى، القاضية بوحدانيتنا، مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا، لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها‏.‏

ولما استحقوا- بإنكارهم وما أرادوه من الأذى لأولياء الله- النكال، تسبب عنه إعلامهم بما استحقوه، فقال مؤذناً بالغضب بالإعراض عنهم، آمراً له صلى الله عليه وسلم بتهديدهم‏:‏ ‏{‏قل أفأنبئكم‏}‏ أي أتعون فأخبركم خبراً عظيماً ‏{‏بشر من ذلكم‏}‏ الأمر الكبير من الشر الذي أردتموه بعباد الله التالين عليكم للآيات وما حصل لكم من الضجر من ذلك، فكأنه قيلك ما هو‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏النار‏}‏ ثم استأنف قوله متهكماً بهم بذكر الوعد‏:‏ ‏{‏وعدها الله‏}‏ العظيم الجليل ‏{‏الذين كفروا‏}‏ جزاء لهم على همهم هذا، فبئس الموعد هي ‏{‏وبئس المصير*‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 76‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏‏}‏

ولما أخبر تعالى عن أنه لا حجة لعابد غيره، وهدد من عاند، أتبعه بأن الحجة قائمة على أن ذلك الغير في غاية الحقارة، ولا قدرة له على دفع ما هدد به عابدوه ولا على غيره، فكيف بالصلاحية لتلك الرتبة الشريفة، والخطة العالية المنيفة، فقال منادياً أهل العقل منبهاً تنبيهاً عاماً‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏‏.‏

ولما كان المقصود من المثل تعقله لا قائله، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏ضرب مثل‏}‏ حاصله أن من عبدتموه أمثالكم، بل هم أحقر منكم ‏{‏فاستمعوا‏}‏ أي أنصتوا متدبرين ‏{‏له‏}‏ ثم فسره بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون‏}‏ أي في حوائجكم، وتجعلونهم آلهة ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترون، ولما تدعون فيها مفترون، لأن سلب القدرة عنها يبين أنها في أدنى المراتب ‏{‏لن يخلقوا ذباباً‏}‏ أي لا قدرة لهم على ذلك الآن، ولا يتجدد لهم هذا الوصف أصلاً في شيء من الأزمان، على حال من الأحوال، مع صغره، فكيف بما هو أكبر منه ‏{‏ولو اجتمعوا‏}‏ أي الذين زعموهم شركاء ‏{‏له‏}‏ أي الخلق، فهم في هذا أمثالكم ‏{‏وإن‏}‏ أي وأبلغ من هذا أنهم عاجزون عن مقاومة الذباب فإنه إن ‏{‏يسلبهم الذباب‏}‏ أي الذي تقدم أنه لا قدرة لهم على خلقه وهو في غاية الحقارة ‏{‏شيئاً‏}‏ من الأشياء جل أو قل مما تطلونهم به من الطيب أو تضعونه بين أيديهم من الأكل أوغيره ‏{‏لا يستنقذوه‏}‏ أي يوجدوا خلاصه أو يطلبوه ‏{‏منه‏}‏ فهم في هذا أحقر منكم، وجهة التمثيل به في الاستلاب الوقاحة، ولهذا يجوز عند الإبلاغ في الذب، فلو كانت وقاحته في الأسد لم ينج منه أحد، ولكن اقتضت الحكمة أن تصحب قوة الأسد النفرة، ووقاحة الذباب الضعف، وهو واحد لا جمع، ففي الجمع بين العباب والمحكم أن ابن عبيدة قال‏:‏ إنه الصواب، ثم قال‏:‏ وفي «كتاب ما تلحن فيه العامة» لأبي عثمان المازني‏:‏ ويقال‏:‏ هذا ذباب واحد، وثلاثة أذّبة، لأقل العدد ولأكثره ذباب، وقول الناس‏:‏ ذبابة- خطأ، فلا تقله-‏.‏

ولما كان هذا ربما أفهم قوة الذباب، عرف أن المقصود غير ذلك بقوله، فذلكة للكلام من أوله‏:‏ ‏{‏ضعف الطالب‏}‏ أي للاستنقاذ من الذباب، وهو الأصنام وعابدوها ‏{‏والمطلوب*‏}‏ أي الذباب والأصنام، اجتمعوا في الضعف وإن كان الأصنام أضعف بدرجات‏.‏

ولما أنتج هذا جهلهم بالله، عبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏ما قدروا الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏حق قدره‏}‏ في وصفهم بصفته غيره كائناً من كان، فكيف وهو أحقر الأشياء‏.‏ ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما قدره‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال ‏{‏لقوي‏}‏ على خلق كل ممكن ‏{‏عزيز*‏}‏ لا يغلبه شيء، وهو يغلب كل شيء بخلاف أصنامهم وغيرها‏.‏

ولما نصب الدليل على أن ما دعوه لا يصلح أن يكون شيء منه إلهاً بعد أن أخبر أنه لم ينزل إليهم حجة بعبادتهم لهم، وختم بما له سبحانه من وصفي القوة والعزة بعد أن أثبت أن له الملك كله، تلا ذلك بدليله الذي تقتضيه سعة الملك وقوة السلطان من إنزال الحجج على ألسنة الرسل بأوامره ونواهيه الموجب لإخلاص العبادة له المقتضي لتعذيب تاركها، فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏يصطفي‏}‏ أي يختار ويخلص ‏{‏من الملائكة رسلاً‏}‏ إلى ما ينبغي الإرسال فيه من العذاب والرحمة، فلا يقدر أحد على صدهم عما أرسلوا له، ولا شك أن قوة الرسول من قوة المرسل ‏{‏ومن الناس‏}‏ أيضاً رسلاً يأتون عن الله بما يشرعونه لعباده، لتقوم عليهم بذلك حجة النقل، مضمومة إلى سلطان العقل، فمن عاداهم خسر وإن طال استدراجه‏.‏ ولما كان ذلك لا يكون إلا بالعلم، قال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الجلال والجمال ‏{‏سميع‏}‏ أي لما يمكن أن يسمع من الرسول وغيره ‏{‏بصير*‏}‏ أي مبصر عالم بكل ما يمكن عقلاً أن يبصر ويعلم، بخلاف أصنامهم‏.‏

ولما كان المتصف بذلك قد يكون وصفه مقصوراً على بعض الأشياء، أخبر أن صفاته محيطة فقال‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ أي الرسل ‏{‏وما خلفهم‏}‏ أي علمه محيط بما هم مطلعون عليه وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه، فإنه يسلك من بين أيديهم ومن خلفهم رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وإن ظن الجاهلون غير ذلك، لاحتجابه سبحانه وتعالى في الأسباب، فلا يقع في فكر أصلاً أن المحيط علماً بكل شيء الشامل القدرة لكل شيء يكل رسولاً من رسله إلى نفسه، فيتكلم بشيء لم يرسله به، ولا أنه يمكن شيطاناً أو غيره أن يتكلم على لسانه بشيء، بل كل منهم محفوظ في نفسه ‏{‏لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 3، 4‏]‏ محفوظ عن تلبيس غيره ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ ‏{‏وإلى الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له، وحده ‏{‏ترجع‏}‏ أي بغاية السهولة بوعد فصل لا بد منه ‏{‏الأمور*‏}‏ يوم يتجلى لفصل القضاء، فكيون أمره ظاهراً لاخفاء فيه، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد أنه منه‏.‏ ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، والذي هو بهذه الصفة له أن يشرع ما يشاء، وينسخ من الشروع ما يشاء، ويحكم بما يريد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

ولما أثبت سبحانه أن الملك والأمر له وحده، وأنه قد أحكم شرعه، وحفظ رسله، وأنه يمكن لمن يشاء أيّ دين شاء، وختم ذلك بما يصلح للترغيب والترهيب، وكانت العادة جارية بأن الملك إذا برزت أوامره وانبثت دعاته، أقبل إليه مقبلون، خاطب المقبلين إلى دينه، وهم الخلص من الناس، فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي قالوا‏:‏ آمنا ‏{‏اركعوا‏}‏ تصديقاً لقولكم ‏{‏واسجدوا‏}‏ أي صلوا الصلاة التي شرعتها للآدميين، فإنها رأس العبادة، لتكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان، وخص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة بهما، لأنهما- لمخالفتهما الهيئات المعتادة- هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما عنها جداً في السورة التي جمعت جميع الفرق الذين فيهم من يستقبح- لما غلب عليه من العتو- بعض الهيئات الدالة على ذل‏.‏

ولما خص أشرف العبادة، عم بقوله‏:‏ ‏{‏واعبدوا‏}‏ أي بأنواع العبادة ‏{‏ربكم‏}‏ المحسن إليكم بكل نعمة دنيوية ودينية‏.‏ ولما ذكر عموم العبادة، أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، وقد يكون بلا نية، فقال‏:‏ ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏ أي كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المرضى ونحو ذلك، من معالي الأخلاق بنية وبغير نية، حتى يكون ذلك لكم عادة فيخف عليكم عمله لله، وهو قريب من «ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» قال أبو حيان‏:‏ بدأ بخاص ثم بأعم‏.‏ ‏{‏لعلكم تفلحون*‏}‏ أي ليكون حالكم حال من يرجو الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب؛ قال ابن القطاع‏:‏ أفلح الرجل‏:‏ فاز بنعيم الآخرة، وفلح أيضاً لغة فيه‏.‏ وفي الجمع بين العباب والمحكم‏:‏ الفلح والفلاح‏:‏ الفوز والبقاء وفي التنزيل ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ أي نالوا البقاء الدائم، وفي الخبر‏:‏ أفلح الرجل‏:‏ ظفر‏.‏ ويقال لكل من أصاب خيراً‏:‏ مفلح‏.‏

ولما كان الجهاد أساس العبادة، وهو- مع كونه حقيقة في قتال الكفار- صالح لأن يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل بالسيف وغيره، وكل اجتهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل، ختم به فقال‏:‏ ‏{‏وجاهدوا في الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له في كل ما ينسب إليه سبحانه، لا يخرج منه شيء عنه كما لا يخرج شيء من المظروف عن الظرف ‏{‏حق جهاده‏}‏ باستفراغ الطاقة في إيقاع كل ما أمر به من الجهاد العدو والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما جهاداً يليق بما أفهمته الإضافة إلى ضميره سبحانه من الإخلاص والقوة، فإنه يهلك جميع من يصدكم عن شيء منه‏.‏

ولما أمر سبحانه بهذه الأوامر، أتبعها بعض ما يجب به شكره، وهو كالتعليل لما قبله، فقال‏:‏ ‏{‏هو اجتباكم‏}‏ أي اختاركم لجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل، ودينه أكرم الأديان، وكتابه أعظم الكتب، وجعلكم- لكونكم أتباعه- خير الأمم ‏{‏وما جعل عليكم في الدين‏}‏ الذي اختاره لكم ‏{‏من حرج‏}‏ أي ضيق يكون به نوع عذر لمن توانى في الجهاد الأصغر والأكبر كما جعل على من كان قبلكم كما تقدم ذكره بعضه في البقرة وغيرها، أعني ‏{‏ملة‏}‏‏.‏

ولما كان أول مخاطب بهذا قريشاً، ثم مضر، وكانوا كلهم أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام حقيقة، قال‏:‏ ‏{‏أبيكم إبراهيم‏}‏ أي الذي ترك عبادة الأصنام ونهى عنها، ووحد الله وأمر بتوحيده، يا من تقيدوا بتقليد الآباء‏!‏ فالزموا دينه لكونه اباً، ولكوني أمرت به، وهو أب لبعض المخاطبين من الأمة حقيقة، ولبعضهم مجازاً بالاحترام والتعظيم، فيعم الخطاب الجميع، ولذلك حثهم على ملته بالتعليل بقوله‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي إبراهيم عليه السلام ‏{‏سمّاكم المسلمين*‏}‏ في الأزمان المتقدمة ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل إنزال هذا القرآن، فنوّه بذكركم والثناء عليكم في سالف الدهر وقديم الزمان فكتب ثناءه في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، وسماكم أيضاً مسلمين ‏{‏وفي هذا‏}‏ الكتاب الذي أنزل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب كما أخبرتكم عن دعوته في قوله ‏{‏ومن ذريتنا أمة مسلمة لك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏ لأنه بانتفاء الحرج يطابق الاسم المسمى، ويجوز- ولعله أحسن- أن يكون ‏{‏هو سمّاكم‏}‏ تعليلاً للأمر بحق الجهاد بعد تعليله بقوله ‏{‏هو اجتباكم‏}‏ فيكون الضمير لله تعالى، ويشهد له بالحسن قراءة أبي رضي الله عنه بالجلالة عوضاً عن الضمير، أي أن كل أمة تسمت باسم من تلقاء نفسها، والله تعالى خصكم باسم الإسلام مشتقاً له من اسمه ‏{‏السلام‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 3‏]‏ مع ما خصكم به من اسم الإيمان اشتقاقاً له من اسمه المؤمن، فأثبت لكم هذا الاسم في كتبه، واجتباكم لاتباع رسوله‏.‏

ولما كان الاسم إذا كان ناشئاً عن الله تعالى سواء كان بواسطة نبي من أنبيائه أو بغير واسطة يكن مخبراً عن كيان المسمى، وكان التقدير‏:‏ رفع عنكم الحرج وسماكم بالإسلام لتكونوا أشد الأمم انقياداً لتكونوا خيرهم، علل هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏ليكون الرسول‏}‏ يوم القيامة ‏{‏شهيداً عليكم‏}‏ لأنه خيركم، والشهيد يكون خيراً ولكون السياق لإثبات مطلق وصف الإسلام فقط، لم يقتض الحال تقديم الظرف بخلاف آية البقرة، فإنها لإثبات ما هو أخص منه ‏{‏وتكونوا‏}‏ بما في جبلاتكم من الخير ‏{‏شهداء على الناس‏}‏ بأن رسلهم بلغتهم رسالات ربهم، لأنكم قدرتم الرسل حق قدرهم، ولم تفرقوا بين أحد منهم، وعلمتم أخبارهم من كتابكم على لسان رسولكم صلى الله عليه وسلم، فبذلك كله صرتم خيرهم، فأهلتم للشهادة وصحت شهادتكم وقبلكم الحكم العدل، وقد دل هذا على أن الشهادة غير المسلم ليست مقبولة‏.‏

ولما ندبهم لأن يكونوا خير الناس، تسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فأقيموا‏}‏ أي فتسبب عن إنعامي عليكم بهذه النعم وإقامتي لكم في هذا المقام الشريف أني أقول لكم‏:‏ أقيموا ‏{‏الصلاة‏}‏ التي هي زكاة قلوبكم، وصلة ما بينكم وبين ربكم ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ التي هي طهرة أبدانكم، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال‏.‏

في جميع ما أمركم به، من المناسك التي تقدمت وغيرها لتكونوا متقين، فيذب عنكم من يريد أن يحول بينكم وبين شيء منها ويقيكم هول الساعة؛ ثم علل أهليته لاعتصامهم به بقوله‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏مولاكم‏}‏ أي المتولي لجميع أموركم، فهو ينصركم على كل من يعاديكم، بحيث تتمكنون من إظهار هذا الدين من مناسك الحج وغيرها؛ ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله‏:‏ ‏{‏فنعم المولى‏}‏ أي هو ‏{‏ونعم النصير*‏}‏ لأنه إذا تولى أحداً كفاه كل ما أهمه، وإذا نصر أحداً أعلاه على كل من خاصمه «ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته»- الحديث، «إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت» وهذا نتيجة التقوى، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها‏.‏ فقد انطبق آخر السورة على أولها‏.‏ ورد مقطعها على مطلعها- والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وهو الهادي للصواب‏.‏

سورة المؤمنون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏قد‏}‏ وهي نقيضة لما تثبت المتوقع وتقرب الماضي من الحال ولما تنفيه ‏{‏أفلح‏}‏ أي فاز وظفر الآن بكل ما يريد، ونال البقاء الدائم في الخير ‏{‏المؤمنون*‏}‏ وعبر بالاسم إشارة إلى أن من أقر بالإيمان وعمل بما أمر به في آخر التي قبلها، استحق الوصف الثابت لأنه اتقى وأنفق مما رزق فأفلح ‏{‏ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏؛ ثم قيدهم بما يلزم من الصدق في الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏الذين هم‏}‏ أي بضمائرهم وظواهرهم ‏{‏في صلاتهم‏}‏ أضيفت إليهم ترغيباً لهم في حفظها، لأنها بينهم وبين الله تعالى، وهو غني عنها، فهم المنتفعون بها ‏{‏خاشعون*‏}‏ أي أذلاء ساكنون متواضعون مطمئنون قاصرون بواطنَهم وظواهرهم على ما هم فيه؛ قال الرازي‏:‏ خائفون خوفاً يملأ القلب حرمة، والأخلاق تهذيباً، والأطراف تأديباً، أي خشية أن ترد عليهم صلاتهم، ومن ذلك خفض البصر إلى موضع السجود، قال الرازي‏:‏ فالعبد إذا دخل في الصلاة رفع الحجاب، وإذا التفت أرخى، قال‏:‏ وهو خوف ممزوج بتيقظ واستكانة، ثم قد يكون في المعاملة إيثاراً ومجاملة وإنصافاً ومعدله، وفي الخدمة حضوراً واستكانة‏.‏ وفي السر تعظيماً وحياء وحرمة، والخشوع في الصلاة بجمع الهمة لها، والإعراض عما سواها، وذلك بحضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء، وإذا كان هذا حالهم في الصلاة التي هي أقرب القربات‏.‏ فهم به فيما سواها أولى‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين «وجعلت قرة عيني في الصلاة» رواه أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه «يا بلال‏!‏ أرحنا بالصلاة»- رواه أحمد عن رجل من أسلم رضي الله عنه‏.‏

ولما كان كل من الصلاة والخشوع صاداً عن اللغو، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏والذين هم‏}‏ بضمائرهم التي تبعها ظواهرهم ‏{‏عن اللغو‏}‏ أي ما لا يعنيهم، وهو كل ما يستحق أن يسقط ويلغى ‏{‏معرضون*‏}‏ أي تاركون عمداً، فصاروا جامعين فعل ما يعني وترك ما لا يعني‏.‏

ولما جمع بين قاعدتي بناء التكاليف‏:‏ فعل الخشوع وترك اللغو، وكان الإنسان محل العجز ومركز التقصير، فهو لا يكاد يخلو عما لا يعنيه، وكان المال مكفراً لما قصد من الإيمان فضلاً عما ذكر منها على سبيل اللغو، فكان مكفراً للغو في غير اليمين من باب الأولى ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏والذين هم‏}‏ وأثبت اللام تقوية لاسم الفاعل فقال‏:‏ ‏{‏للزكاة‏}‏ أي التزكية، وهي إخراج الزكاة، أو لأداء الزكاة التي هي أعظم مصدق للإيمان ‏{‏فاعلون*‏}‏ ليجمعوا في طهارة الدين بين القلب والقالب والمال؛ قال ابن كثير‏:‏ هذه مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب، وأن أصل الزكاة كان واجباً بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام

‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏

ولما أشار إلى أن بذل المال على وجهه طهرة، وأن حبسه عن ذلك تلفة، أتبعه الإيماء إلى أن بذل الفرج في غير وجهه نجاسة، وحفظه طهرة‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏والذين هم لفروجهم‏}‏ في الجماع وما داناه بالظاهر والباطن ‏{‏حافظون*‏}‏ أي دائماً لا يتبعونها شهوتها، بل هم قائمون عليها يذلونها ويضبطونها، وذكرها بعد اللغو الداعي إليها وبذل المال الذي هو من أعظم أسبابها عظيم المناسبة؛ ثم استثنى من ذلك فقال‏:‏ ‏{‏إلا على أزواجهم‏}‏ اللاتي ملكوا أبضاعهن بعقد النكاح، ولعلو الذكر عبر ب «على» ‏{‏أو ما ملكت أيمانهم‏}‏ رقابة من السراري، وعبر ب «ما» لقربهن مما لا يعقل لنقصهن عن الحرائر الناقصات عن الذكور ‏{‏فإنهم غير ملومين*‏}‏ أي على بذل الفرج في ذلك إذا كان على وجهه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 13‏]‏

‏{‏فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

ولما كان من لم يكتف بالحلال مكلفاً نفسه طلب ما يضره، سبب عن ذلك قوله معبراً بما يفهم العلاج‏:‏ ‏{‏فمن ابتغى‏}‏ أي تطلب متعدياً ‏{‏وراء ذلك‏}‏ العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنى أو لواط أو استمناء يد أو بهيمة أو غيرها ‏{‏فأولئك‏}‏ البعيدون من الفلاح ‏{‏هم العادون‏}‏ أي المبالغون في تعدي الحدود، لما يورث ذلك من اختلاط الأنساب، وانتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وإيقاد الشر بين العباد‏.‏

ولما كان ذلك من الأمانات العظيمة، أتبعه عمومها فقال‏:‏ ‏{‏والذين هم لأماناتهم‏}‏ أي في الفروج وغيرها، سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام وغيرهما، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق، أو بينهم وبين خلق كالوادئع والبضائع، فعلى العبد الوفاء بجميعها- قاله الرازي‏.‏ ولما كان العهد أعظم أمانة، تلاها به تنبيهاً على عظمه فقال‏:‏ ‏{‏وعهدهم راعون*‏}‏ أي الحافظون بالقيام والرعاية والإصلاح‏.‏

ولما كانت الصلاة أجلّ ما عهد فيه من أمر الدين وآكد، وهي من الأمور الخفية التي وقع الائتمان عليها، لما خفف الله فيها على هذه الأمة بإيساع زمانها ومكانها، قال‏:‏ ‏{‏والذين هم على صلواتهم‏}‏ التي وصفوا بالخشوع فيها ‏{‏يحافظون*‏}‏ أي يجددون تعهدها بغاية جدهم، لا يتركون شيئاً من مفروضاتها ولا مسنوناتها، ويجتهدون في كمالاتها، وحّدت في قراءة حمزة والكسائي للجنس، وجمعت عند الجماعة إشارة إلى أعدادها وأنواعها، ولا يخفى ما في افتتاح هذه الأوصاف واختتامها بالصلاة من التعظيم لها، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة»‏.‏

ولما ذكر مجموع هذه الأوصاف العظيمة، فخم جزاءهم فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البالغون من الإحسان أعلى مكان ‏{‏هم‏}‏ خاصة ‏{‏الوارثون*‏}‏ أي المستحقون لهذا الوصف المشعر ببقائهم بعد أعدائهم فيرثون دار الله لقربهم منه واختصاصهم به بعد إرثهم أرض الدنيا التي قارعوا عليها على قتلهم وضعفهم أعداءَنا الكفار على كثرتهم وقوتهم، فكانت العاقبة فيها لهم كما كتبنا في الزبور ‏{‏إن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ ‏{‏لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 13، 14‏]‏ ‏{‏الذين يرثون الفردوس‏}‏ التي هي أعلى الجنة، وهي في الأصل البستان العظيم الواسع، يجمع محاسن النبات والأشجار من العنب وما ضاهاه من كل ما يكون في البساتين والأودية التي تجمع ضروباً من النبت‏:‏ فيحوزون منها بعد البعث ما أعد الله لهم فيها من المنازل وما كان أعد للكفار لو آمنوا أو لم يخرجوا بخروج أبويهم من الجنة ‏{‏هم‏}‏ خاصة ‏{‏فيها‏}‏ أي لا في غيرها ‏{‏خالدون*‏}‏ وهذه الآيات أجمع ما ذكر في وصف المؤمنين، روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في التفسير من جامعه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ «كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال‏:‏ اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، ثم قال‏:‏ لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ حتى ختم العشر»

- ورواه النسائي في الصلاة وقال‏:‏ منكر لا يُعرَف أحد رواه غير يونس بن سليم ويونس لا نعرفه، وعزى أبو حيان آخر الحديث للحاكم في المستدرك‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ فصل في افتتاحها ما أجمل في قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 77‏]‏ وأعلم بما ينبغي للراكع والساجد التزامه من الخشوع، ولالتحام الكلامين ما ورد الأول أمراً والثاني مدحه وتعريفاً بما به كمال الحال، وكأنه لما أمر المؤمنين، وأطمع بالفلاح جزاء لامتثاله، كان مظنة لسؤاله عن تفصيل ما أمر به من العبادة وفعل الخير الذي به يكمل فلاحه فقيل له‏:‏ المفلح من التزم كذا وكذا، وذكر سبعة أضرب من العبادة هي أصول لما وراءها ومستتبعة سائر التكاليف، وقد بسط حكم كل عبادة منها وما يتعلق بها في الكتاب والسنة؛ ولما كانت المحافظة على الصلاة منافرة إتيان المأثم جملة ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ لذلك ما ختمت بها هذه العبادات بعد التنبيه على محل الصلاة من هذه العبادة بذكر الخشوع فيها أولاً، واتبعت هذه الضروب السبعة بذكر أطوار سبعة يتقلب فيها الإنسان قبل خروجه إلى الدنيا فقال تعالى ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين‏}‏ وكأن قد قيل له‏:‏ إنما كمل خلقك وخروجك إلى الدنيا بعد هذه التقلبات السبعة‏.‏ وإنما تتخلص من دنياك بالتزام هذه العبادات السبع، وقد وقع عقب هذه الايات قوله تعالى ‏{‏ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق‏}‏ ولعل ذلك مما يقرر هذا الاعتبار ووارد لمناسبته- والله أعلم، وكما أن صدر هذه السورة مفسر لما أجمل في الآيات قبلها فكذا الآيات بعد مفصلة لمجمل ما تقدم في قوله تعالى ‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏ وهذا كاف في التحام السورتين والله سبحانه المستعان- انتهى‏.‏

ولما ذكر سبحانه الجنة المتضمن ذكرها للبعث، استدل على القدرة عليه بابتداء الخلق للإنسان، ثم لما هو أكبر منه من الأكوان، وما فيهما من المنافع، فلما ثبت ذلك شرع يهدد من استكبر عنه بإهلاك الماضين، وابتدأ بقصة نوح عليه الصلاة والسلام لأنه أول، ولأن نجاته كانت في الفلك المختوم به الآية التي قبله، وفي ذلك تذكير بنعمة النجاة فيه لأن الكل من نسله، فلما ثبت بالتهديد بإهلاك الماضين القدرة التامة بالاختيار، خوف العرب مثل ذلك العذاب، فلما تم زاجر الإنذار بالنقم شرع في الاستعطاف إلى الشكر بالنعم، بتمييز الإنسان على سائر الحيوان ونحو ذلك، ثم عاد إلى دلائل القدرة على البعث بالوحدانية والتنزه عن الشريك والولد- إلى آخرها، ثم ذكر في أول التي بعدها على ما ذكر هنا من صون الفروج، فذكر حكم من لم يصن فرجه وأتبعه ما يناسبه من توابعه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلقد حكمنا ببعث جميع العباد بعد الممات، فريقاً منهم إلى النعيم، وفريقاً إلى الجحيم، فإنا قادرون على الإعادة وإن تمزقتم وصرتم تراباً فإنه تراب له أصل في الحياة، كما قدرنا على البداءة فلقد خلقنا أباكم آدم من تراب الأرض قبل أن يكون للتراب أصل في الحياة، عطف عليه قوله، دلالة على هذا المقدر واستدلالاً على البعث مظهراً له في مقام العظمة، مؤكداً إقامة لهم بإنكارهم للبعث مقام المنكرين‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان‏}‏ أي هذا النوع الذي تشاهدونه آنساً بنفسه مسروراً بفعله وحسه ‏{‏من سلالة‏}‏ أي شيء قليل، بما تدل عليه الصيغة كالقلامة والقمامة، انتزعناه واستخلصناه برفق، فكان على نهاية الاعتدال، وهي طينة آدم عليه الصلاة السلام، سلّها- بما له من اللطف- ‏{‏من طين*‏}‏ أي جنس طين الأرض، روى الإمام أحمد وأبو داود والترميذي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله خلق آدم عن قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك»‏.‏

ولما ذكر سبحانه أصل الآدمي الأول الذي هو الطين الذي شرفه به لجمعه الطهورين، وعبر فيه بالخلق لما فيه من الخلط، لأن الخلق- كما مر عن الحرالي في أول البقرة‏:‏ تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة، مع أنه ليس مما يجري على حكمة التسبيب التي نعهدها أن يكون من الطين إنسان، أتبعه سبحانه أصله الثاني الذي هو أطهر الطهورين‏:‏ الماء الذي منه كل شيء حي، معبراً عنه بالجعل لأنه كما مر أيضاً إظهار أمر سبب وتصيير، وما هو من الطين مما يتسبب عنه من الماء ويستجلب منه وهو بسيط لا خلط فيه فلا تخليق له، وعبر بأداة التراخي لأن جعل الطين ماء مستبعد جداً فقال‏:‏ ‏{‏ثم جعلناه‏}‏ أي الطين أو هذا النوع المسلول من المخلوق من الطين بتطوير أفراده ببديع الصنع ولطيف الوضع ‏{‏نطفة‏}‏ اي ماء دافقاً لا أثر للطين فيه ‏{‏في قرار‏}‏ أي من الصلب والترائب ثم الرحم، مصدر جعل اسماً للموضع ‏{‏مكين*‏}‏ أي مانع من الأشياء المفسدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ولما كان تصيير الماء دماً أمراً بالغاً خارجاً عن التسبيب، وكانت النطفة التي هي مبدأ الآدمي تفسد تارة وتأخذ في التكون أخرى، عبر بالخلق لما يخلطها به مما تكتسبه من الرحم عند التحمير وقرنه بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد تراخ في الزمان وعلو في الرتبة والعظمة ‏{‏خلقنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏النطفة‏}‏ أي البيضاء جداً ‏{‏علقة‏}‏ حمراء دماً عبيطاً شديد الحمرة جامداً غليظاً‏.‏

ولما كان ما بعد العلقة من الأطوار المتصاعدة مسبباً كل واحد منه عما قبله بتقدير العزيز العليم الذي اختص به من غير تراخ، وليس تسببه من العادة التي يقدر عليها غيره سبحانه، عبر بالفاء والخلق فقال‏:‏ ‏{‏فخلقنا العلقة مضغة‏}‏ أي قطعة لحم صغيرة لا شكل فيها ولا تخطيط ‏{‏فخلقنا المضغة‏}‏ بتصفيتها وتصليبها بما سببنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة ‏{‏عظاماً‏}‏ من رأس ورجلين وما بينهما ‏{‏فكسونا‏}‏ بما لنا من قدرة الاختراع، تلك ‏{‏العظام لحماً‏}‏ بما ولدنا منها ترجيعاً لحالها قبل كونها عظماً، فسترنا تلك العظام وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب‏.‏

ولما كان التصوير ونفخ الروح من الجلالة بمكان أيّ مكان، أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏ثم أنشأناه‏}‏ أي هذا المحدث عنه بعظمتنا ‏{‏خلقاً آخر‏}‏ أي عظيماً جليلاً متحركاً ناطقاً خصيماً مبيناً بعيداً من الطين جداً؛ قال الرازي‏:‏ وأصل النون والشين والهمزة يدل على ارتفاع شيء وسموه‏.‏

ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سبباً لتعظيم الخالق‏:‏ ‏{‏فتبارك‏}‏ أي ثبت ثباتاً لم يثبته شيء، بأن حاز جميع صفات الكمال، وتنزه عن كل شائبة نقص، فكان قادراً على كل شيء، ولو داناه شيء من عجز لم يكن تام الثبات، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ فعبر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى؛ وأشار إلى جمال الإنسان بقوله‏:‏ ‏{‏أحسن الخالقين*‏}‏ أي المقدرين، أي قدر هذا الخلق العجيب هذا التقدير، ثم طوره في أطواره ما بين طفل رضيع، ومحتلم شديد، وشاب نشيط، وكهل عظيم، وشيخ هرم- إلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير‏.‏

ولما كانت إماتة ما صار هكذا- بعد القوة العظيمة والإدراك التام- من الغرائب، وكان وجودها فيه وتكرارها عليه في كل وقت قد صيرها أمراً مألوفاً، وشيئاً ظاهراً مكشوفاً، وكان عتو الإنسان على خالقه وتمرده ومخالفته لأمره نسياناً لهذا المألوف كالإنكار له، أشار إلى ذلك بقوله تعالى مسبباً مبالغاً في التأكيد‏:‏ ‏{‏ثم إنكم‏}‏ ولما كان من الممكن ليس له من ذاته إلا العدم، نزع الجار فقال‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد في العمر في آجال متفاوتة ‏{‏لميتون*‏}‏ وأشار بهذا النعت إلى أن الموت أمر ثابت للإنسان حيّ في حال حياته لازم له، بل ليس لممكن من ذاته إلا العدم‏.‏

ولما تقرر بذلك القدرة على البعث تقرراً لا يشك فيه عاقل، قال نافياً ما يوهمه إعراء الظرف من الجار‏:‏ ‏{‏ثم إنكم‏}‏ وعين البعث الأكبر التام، الذي هو محط الثواب والعقاب، لأن من أقر بما هو دونه من الحياة في القبر وغيرها، فقال‏:‏ ‏{‏يوم القيامة‏}‏ أي الذي يجمع فيه جميع الخلائق ‏{‏تبعثون*‏}‏ فنقصه عن تأكيد الموت تنبيهاً على ظهوره، ولم يخله عن التأكيد لكونه على خلاف العادة، وليس في ذكر هذا نفي للحياة في القبر عند السؤال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما بين لهم أن فكرهم فيهم يكفيهم، ولاعتقاد البعث يعنيهم، أتبعه دليلاً آخر بالتذكير بخلق ما هو أكبر منهم، وبتدبيرهم بخلقه وخلق ما فيه من المنافع لاستبقائهم، فقال‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا قوقكم‏}‏ في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك ‏{‏سبع‏}‏ ولإرادة التعظيم أضاف إلى جمع كثرة فقال‏:‏ ‏{‏طرائق‏}‏ أي سماوات لا تتغير عن حالتها التي دبرناها عليها إلى أن نريد، وبعضها فوق بعض متطابقة، وكل واحدة منها على طريقة تخصها، وفيها طرق لكواكبها؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي‏:‏ سميت طرائق لأنها مطارقة بعضها في أثر بعض- انتهى‏.‏ وهذا من قولهم‏:‏ فلان على طريقة- أي حالة- واحدة، وهذا مطراق هذا، أي تلوه ونظيره، وريش طراق- إذا كان بعضه فوق بعض‏.‏ وقال ابن القطاع‏:‏ وأطرق جناح الطائر- أي مبنياً للمجهول‏:‏ ألبس الريش الأعلى الأسفل‏.‏ وقال أبو عبيد الهروي‏:‏ وأطرق جناح الطير- إذا وقعت ريشة على التي تحتها فألبستها، وفي ريشه طرق- إذا ركب بعضه بعضاً‏.‏ وقال الصغاني في مجمع البحرين‏:‏ والطرق أيضاً بالتحريك في الريش أن يكون بعضها فوق بعض، وقال ابن الأثير في النهاية‏:‏ طارق النعل- إذا صيرها طاقاً فوق طاق وركب بعضها على بعض، وفي القاموس‏:‏ والطراق- ككتاب‏:‏ كل خصفة يخصف بها النعل وتكون حذوها سواء وأن يقور جلد على مقدار الترس فيلزق بالترس، وقال القزاز‏:‏ يقال‏:‏ ترس مُطرَق- إذا جعل له ذلك، وقال الصغاني في المجمع‏:‏ والمجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة- أي المخصوفة بعضها على بعض، ويقال‏:‏ أطرقت بالجلد والعصب، أي ألبست، وقال أبو عبيد‏:‏ طارق النعل- إذا صير خصفاً فوق خصف، وقال في الخصف‏:‏ هو إطباق طاق على طاق، وأصل الخصف‏:‏ الضم والجمع، وقال القزاز‏:‏ وطارقت بين النعلين والثوبين‏:‏ جعلت أحدهما فوق الآخر- انتهى‏.‏ وأصل الطرق الضرب، ومع كون السماوات مطارقة بعضها فوق بعض فهي طرق للملائكة يتنزلون فيها بأوامره سبحانه وتعالى‏.‏

ولما كان إهمال الشيء بعد إيجاده غفلة عنه، وكان البعث إحداث تدبير لم يكن كما أن الموت كذلك، بين أن مثل تلك الأفعال الشريفة عادته سبحانه إظهاراً للقدرة وتنزهاً عن العجز والغفلة فقال‏:‏ ‏{‏وما كنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏عن الخلق‏}‏ أي الذي خلقناه وفرغنا من إيجاده وعن إحداث ما لم يكن، بقدرتنا التامة وعلمنا الشامل ‏{‏غافلين*‏}‏ بل دبرناه تدبيراً محكماً ربطناه بأسباب تنشأ عنها مسببات يكون بها صلاحه، وجعلنا في كل سماء ما ينبغي أن يكون فيها من المنافع، وفي كل أرض كذلك، وحفظناه من الفساد إلى الوقت الذي نريد فيه طيّ هذا العالم وإبراز غيره، ونحن مع ذلك كل يوم في شأن، وإظهار برهان، نعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، إذا شئنا أنفذنا السبب فنشأ عنه المسبب، وإذا شئنا منعناه مما هيئ له، فلا يكون شيء من ذلك إلا بخلق جديد، فكيف يظن بنا أنا نترك الخلق بعد موتهم سدى، مع أن فيهم المطيع الذي لم نوفه ثوابه، والعاصي الذي لم ننزل به عقابه، أم كيف لا نقدر على إعادتهم إلى ما كانوا عليه بعد ما قدرنا على إبداعهم ولم يكونوا شيئاً‏.‏

ولما ساق سبحانه هذين الدليلين على القدرة على البعث، أتبعهما بما هو من جنسهما ومشاكل للأول منهما، وهو مع ذلك دليل على ختام الثاني من أنه من أجلّ النعم التي يجب شكرها، فقال‏:‏ ‏{‏وأنزلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏من السماء‏}‏ أي من جهتها ‏{‏ماء بقدر‏}‏ لعله- والله أعلم- بقدر ما يسقي الزروع والأشجار، ويحيي البراري والقفار، وما تحتاج إليه البحار، مما تصب فيها الأنهار، إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار، ولو كان دون ذلك لأدى إلى جفاف النبات والأشجار ‏{‏فأسكنّاه‏}‏ بعظمتنا ‏{‏في الأرض‏}‏ بعضه على ظهرها وبعضه في بطنها، ولم نعمها بالذي على ظهرها ولم نغور ما في بطنها ليعم نفعه وليسهل الوصول إليه ‏{‏وإنا‏}‏ على ما لنا من العظمة ‏{‏على ذهاب به‏}‏ أي على إذهابه بأنواع الإذهاب بكل طريق بالإفساد والرفع والتغوير وغير ذلك، مع إذهاب البركة التي تكون لمن كنا معه ‏{‏لقادرون*‏}‏ قدرة هي في نهاية العظمة، فإياكم والتعرض لما يسخطنا‏.‏

ولما ذكر إنزاله، سبب عنه الدليل القرب على البعث فقال‏:‏ ‏{‏فأنشأنا‏}‏ أي فأخرجنا وأحيينا ‏{‏لكم‏}‏ خاصة، لا لنا ‏{‏به‏}‏ أي بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي ‏{‏جنات‏}‏ أي بساتين تجن- أي تستر- داخلها بما فيها ‏{‏من نخيل وأعناب‏}‏ صرح بهذين الصنفين لشرفهما، ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار، سمي الأول باسم شجرته لكثرة ما فيهما من المنافع المقصودة بخلاف الثاني فإنه المقصود من شجرته؛ وأشار إلى غيرهما بقوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ أي خاصة ‏{‏فيها‏}‏ أي الجنات ‏{‏فواكه كثيرة‏}‏ ولكم فيها غير ذلك‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ منها- وهي طرية- تتفكهون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومنها‏}‏ أي بعد اليبس والعصر ‏{‏تأكلون*‏}‏ أي يتجدد لكم الأكل بالادخار، ولعله قدم الظرف تعظيماً للامتنان بها‏.‏